مئوية نجيب محفوظ
مركز الجزويت بالأسكندرية
12/12/2011
فى ظل تاريخ الكون، يصبح تاريخ الإنسان على هذا الكوكب ضئيلاً جدًا، و لكن ينجح ذلك الإنسان بقدره أن يعيش، بل و البعض قد نجحوا فى تحقيق ما هو أكثر من ذلك. فبالرغم من خبرة الإنسان الفقيرة على هذا الكوكب فقد نجد بعض المتنبئين الذين نجحوا فى قراءة بعض من حروف المستقبل. فالكاتب المصرى نجيب محفوظ قد حدثنا عن تلك الحروف التى قد شكلت قدرنا الآن. و قد تبين لنا من تأمل ملحمة الحرافيش معرفة مراحل تطور التاريخ المصرى، فما عاشور الناجى و كفاحه الذى ظل شبه أسطورة إلا رمز من رموز عظمة التاريخ التى لا نستطيع أن ندركها، مثله كمثل عظمة الفراعنة. فعلى مدار القصة مازال أهل الحارة يتفاخرون بالماضى و لكن لا يفعلون شئ فى حاضرهم. كل ملحمة ترجمت عصر من عصورنا و صورت تفكير أبطال تلك العصور و مدى تغيرها و تطورها و تأخرها! و لكن نجح نجيب محفوظ فى تخليد عمله و كلامه فى آخر ملحمة عندما تنبأ بالثورة. ففى عالم "الفتوات" كان الحكم يتلاعب بين الناس لمن يمتلك قوة إنتزاعه، إلا فى ثورة الحرافيش التى أُسست من قلوب الناس و ليس من سواعدهم. و لكن قد أخطأ كاتبنا المصرى الصواب فى شئ، ففى ثورته كان الحرافيش يد واحدة و ليس بها أحزاب سياسية أو تفرقه عنصرية.. ربما كان ليحزن كاتبنا إذا كان ما يزال ينعم بالحياة أو ربما نحن لم نكن مثل الحرافيش فى يوم قط! ربما نحن مثل "الفتوات" نتعارك و نتبارز و نتلاعب للحصول على السلطة من أيدى مصر، و نشوه اللوحة الجميلة التى كانت تعبر فى يوم من الأيام عن الإتحاد و الحرية. فربما الثورة التى تحدث عنها نجيب محفوظ مازالت فى علم الغيب، و ما تلك الثورة التى نحن نغامر فيها بأرواحنا إلا الملحمة الثالثة أو الرابعة فى كتاب الحياة، و فى كتاب مصر!
و لكن يبقى شئ غامض يغمر القارئ على دوام عصور القصة، و هو ذكر سيرة الدراويش فى كل ملحمة، و فى كل عصر، و تلحين ذكرهم الذى يتلى على أهل الحارة.. فما الدراويش إلا الملأ الأعلى و الملائكة الذين ظلوا يرسلون البركة على أهل الحارة. أو ربما الدراويش فى القصة هم الصوفيين أهل العلم الذين قد زهدوا السياسة و الناس و بدأوا يتواصلوا مع مخلوقات أخرى فى التكية و يتفكرون فى سياسة الكون. و كان ظهورهم لأهل الحارة لسبيل الهدى و لكن كل ما كان يسمع منهم هو تلاوات غير مفهومه و لكنها جميلة، ففى الحقيقة كانوا يتحدثون بلغة الإنسان و حروفه و لكن بمنطق الإله، فكان الناس لا يفقهون حكمتهم فيسمعونها و كأنها لغة أخرى. ففى آخر ملحمة عندما فشلوا الدراويش فى التواصل مع أهل الحارة بالكلام، فتواصلوا بثمار التوت.. و لا يزال الدراويش يطوفون من ملحمة إلى أخرى، و من كتاب إلى كتاب، بل من عالم إلى آخر، ففى طوافهم الدائم حكمة لأنهم على يقين أنهم لن يروا الله و لن يدركوا الملكوت إلا من الطواف و النظر فى كل الإتجاهات فى نفس الوقت. فبحكمتهم يزهدون الدنيا و يمتلكون الملكوت.. و يصبحون جزء من بلاط الملك الأعلى!
فى كتاب آخر و هو "أمام العرش" ذكر نجيب محفوظ محاكمة ملوك و رؤساء مصر من بداية مينا موحد القطرين و حتى عصر الناصرية فى محكمة الحياة الأخرى الفرعونية. ففى هذا الكتاب التاريخى نجد سرد أحداث تاريخنا، بكل أخطائه و مزاياة، و لكن يظل الكتاب ناقصًا حتى أكمل القدر آخر فصل منه و جعل رئيسنا المخلوع حسنى مبارك وراء قضبان المحكمة، و هنا الروعة لأن مبارك هو الوحيد الذى لم يذكره الكتاب و هو الفرعون الوحيد فى تاريخ مصر الذى حاكمه شعبه! ربما كاتبنا قد كتب هذا الكتاب لتحذير الرئيس السابق و قد جعل فى نهاية الكتاب مشهد لكل فرعون راحل يطلق نصيحة مخلدة للمصريين و لحكامها، فربما هذا الكتاب كان مجرد نصيحة أخوية من حاكم الأدب إلى حاكم الدولة!
فى النهاية نجح نجيب محفوظ بعلمه أن يؤكد لنا أن بعض الكتب الكلاسيكية مازالت حية و عصرية، و لكن قد نسينا و ها نحن نتذكر مرة أخرى، فالدراويش مازالوا يطوفون، و يدعون، و يبتهلون.. و مازال الكاتب المصرى يجلس القرفصاء على مر الفصول و العصور، لا يهزه تقلب الطقس و القلوب، و هو دومًا عاكفًا فى خشوع، يؤرخ ما يحدث من آيات و عبر بقلمه الفلسفى الحاد الذى يذبح الأوراق ذبحًا و يقدمها أضحية للبشرية و لخالقها..
بقلم: محمود حسن منسي
روائى / مصور / صحفى
موظف بالأكاديمية العربية للعلوم و التكنولوجيا و النقل البحرى
No comments:
Post a Comment